اللغة العربية لغة القرآن الكريم الذي جاءت كلماته تحمل الإيجاز والإعجاز في آن واحد، كما أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم. ولكن يكاد يقتصر استخدام اللغة العربية الفصحي على فئة ضئيلة جدا من المثقفين في جميع أنحاء الوطن العربي، وقد تدني مستوى الأداء باللغة العربية الفصحى والسليمة بين المتعلمين، ويرجع هذا لأسباب شتي نذكر منها في هذا المقال ما ذكره الأستاذ الدكتور مكي الحسني حين تسآل في كتابه نحو إتقان الكتابة باللغة العربية عن سبب تدنّى مستوى الأداء بالعربية لدى المتعلمين قائلا: |
"ثمة عدة أسباب: ففي مطالع العصر الحديث كان المتعلمون قِلّة، ولكن كان معظمهم جيد المعرفة بالعربية. لأنه كان يأخذ علمه عن معلمين مقتدرين، ومن الكتب الشائعة آنذاك، وأكثرها مَصُوغ بلغةٍ عربية جيدة، أو سليمة على الأقل. |
ثم زادت نسبة المتعلمين، خصوصاً في النصف الثاني من هذا القرن، زيادةً كبيرة في معظم البلاد العربية. ورافق هذه الزيادة هبوطٌ ملحوظ في مستوى التعليم والمعلمين والمتعلمين، والكتب التي يكتبونها ويقرؤونها. وساهم في هذا الهبوط: |
أولاً: التوسُّع السريع جداً في التعليم الابتدائي والإعدادي في كثير من البلدان العربية، وإناطة التعليم في هاتين المرحلتين الحساستين، بأشخاص معظمهم غير مؤهل تأهيلاً يكفي للنهوض بهذه المهمة العظيمة الشأن: تكوين الناشئة. |
ثانياً: انتشار ما صار يسمى (وسائل الإعلام): المقروءة (الصحف والمجلات)، والمسموعة (محطات الإذاعة)، والمرئية (محطات التلفزة). ومن المؤلم أن هذه الوسائل كلها، تنشر فيما تنشر، لغةَ العامة، والخطأ اللغوي، وتُرسّخه. فيتأثر بها بحكم انتشارها الواسع، عشرات الملايين من المتعلمين وغيرهم. وقد يتخذونها قدوةً لهم، علماً بأن القائمين على هذه الوسائل غير مؤهلين التأهيل الكافي. ويؤيد ما أقول، أننا لم نكن نسمع قبل نحو 40 سنة الأخطاء الفادحة الآتية، وأمثالها، والتي أشاعتها الصحف والإذاعات: |
· سوف لن أحضر! والصواب لن أحضر! · على الراغبين التواجد في الساعة كذا... والصواب: الحضور في الساعة... · مبروك! والصواب: مبارك! · وانتشر أخيراً التعبيران الشنيعان: هاتف خِلْيَويّ! والصواب: خَلَوِي! · إن هكذا أشياء غير مقبولة... والصواب: إن أَشياء كهذه ... |
ثالثاً: استخفاف المتعلمين - فضلاً عن بقية الناس - باللغة العربية، والنظرُ إلى الجهل بها على أنه أمرٌ لا يعيب صاحبَه... وكيف يعيبه ومحطات الإذاعة والتلفزة العربية، بقنواتها التي لا تحصى، تقدم أغلب برامجها بلغة العامة، أو بلغة كثيرة الأغلاط؟ |
قال الدكتور محمد خير الحلواني في مقالة له: "الجيل الناشئ لا يعيش في محيط لغوي سليم." وقال الدكتور محمد أحمد الدالي في محاضرة له: "إذا كانت لغة أكثر من يتولى التعليم والإعلام ليست عربية الوجه في غير جانب من جوانبها، فما حال مَن يتلقّى هذه اللغةَ عن ضَعَفَةٍ لا يتجاوز معجمهم اللفظي أُليفاظاً لا يتجاوزونها في العبارة عن أغراضهم، لا يراعون فيما يتولّون قواعد اللغة وأساليبها؟" |
3 - ما السبيل إلى التمكن من العربية؟ أودّ ابتداءً أن أقول إن الحد الأدنى المطلوب هو التمكن من العربية السليمة، ويمكن بعد ذلك السعي للتضلّع من الفصيحة، ثم الفصحى في المرحلة الأخيرة. |
قال ابن خلدون في مقدمته (ص 561): "إن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله [الضمير عائد لمن يبتغي هذه الملكة] المِنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسجَ هو عليه، ويتنَزَّلَ بذلك مَنْزِلةَ مَن نشأ معهم، وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم." |
وأشار إلى هذا المعنى الدكتور إبراهيم مدكور - الرئيس السابق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة - فقال: "ملكة اللغة تُكتسَب بالحفظ والسماع، أكثر مما تُكْتَسَبُ بالضابط والقاعدة." وهذا يعني أن المعوَّل عليه في المقام الأول هو الحفظ والسماع، وبعد ذلك يأتي دور كتاب القواعد. ولهذا السبب كان الأوائل يرسلون أبناءهم صغاراً إلى البادية، ليسمعوا اللغة الصافية ويحفظوها، فتنشأ لديهم السليقة. |
ومن المهم أن ندرك أننا جميعاً - في العصور الأخيرة - لا نملك سليقة لغوية سليمة، للأسباب التي ذكرتها في الفقرة السابقة. وهذا يعني أن علينا اكتساب العربية السليمة، مثلما نكتسب الإنكليزية السليمة: |
أ ـ بقراءة الكثير من النصوص الفصيحة قراءةً متأنيَّةً مُتَرَوِيَّة، مع إنعام النظر في المفردات والتراكيب لحفظها واستعمالها والقياس عليها. وحبذا تعويدُ أولادنا، منذ الصغر، قراءةَ هذه النصوص. أما السماع فنفتقر إليه: إذ أين يمكنك في هذه الأيام أن تسمع لغة عربية عالية، يمكن الاقتباس منها؟ ب ـ بالرجوع المتكرر إلى معجم لغوي جيد. |
ج ـ بالاستعانة بكتاب جيد في قواعد العربية. د ـ بالاطلاع على بعض معاجم الأخطاء الشائعة. |
4 - ما هي الوسائل المساعدة؟ أ - واضح إذن أن (إدمان) القراءة الواعية للنصوص الفصيحة هو الأساس. فأين نجد هذه النصوص؟أقترح البدء بأعمال كتَّاب مُجِيدين معاصرين، مثل: · مصطفى صادق الرافعي (وحْيُ القلم؛ كتاب المساكين؛ إعجاز القرآن). · طه حسين (الوعد الحق؛ الأيام؛ على هامش السيرة). · علي الطنطاوي (فِكَر ومباحث،...). · ديوان أحمد شوقي؛ وبعد ذلك يَحْسُن الاطلاع على بعض أعمال القدامى، مثل: · ابن المقفع (الأدب الصغير؛ الأدب الكبير؛ كليلة ودمنة...) · الجاحظ (البيان والتبيين؛ الحيوان؛ البخلاء...) · ابن قتيبة (عيون الأخبار). · المُبَرِّد (الكامل). · سيرة ابن هشام. · أبو الفرج الأصبهاني (الأغاني). · ديوان الفرزدق... |
أكرر القول: لا بد من القراءة بِرَوِيّةٍ وإنعام نظر، وحفظ التراكيب والمفردات، كما نفعل عند تعلُّم لغة أجنبية. |
ب - فإذا صادفتَ أثناء القراءة مفردةً غير مألوفة، فافتح المعجم لتطّلع على معانيها واستعمالاتها المختلفة". وبهذا قد ذكرنا جزء مما ذكره الاستاذ الدكتور مكي الحسني بشأن أسباب تدني مستوى الأداء باللغة العربية ولنا في الحديث بقية... |